فصل: فصل: ذكر الضلال والشقاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: ذكر ما أعطاه الله لآدم عليه السلام بعد أن أهبطه إلى الأرض:

ولما أهبطه سبحانه من الجنة وعرضه وذريته لأنواع المحن والبلاء اعطاهم افضل مما منعهم وهو عهده الذي عهد إليه وإلى بنيه وأخبر أنه من تمسك به منهم صار إلى رضوانه ودار كرامته قال تعالى عقب اخراجه منها: {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} وفي الآية الأخرى: {قال اهبطا منها جميعا فإما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} فلما كسره سبحانه بإهباطه من الجنة جبره وذريته بهذا العهد الذي عهده إليهم فقال تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى} وهذه هي أن الشرطية المؤكدة بما الدالة على استغراق الزمان والمعنى أي وقت وأي حين اتاكم من يهدى وجعل جواب هذا الشرط جملة شرطية وهي قوله: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} كما تقول إن زرتني فمن بشرني بقدومك فهو حر وجواب الشرط يكون جملة تامة أما خبرا محضا كقولك أن زرتني اكرمتك أو خبرا مقرونا بالشرط كهذا اومؤكدا بالقسم أو بأن واللام كقوله تعالى: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} وإما طلبا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله» وقوله: «وإذا لقيتموهم فاصبروا» وقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وأكثر ما يأتي هذا النوع مع إذا التي تفيد تحقيق وقوع الشرط لسر وهو افادته تحقيقالطلب عند تحقيق الشرط فمتى تحقق الشرط فالطلب متحقق فأتى بإذا الدالة على تحقيق الشرط فعلم تحقيق الطلب عندها وقد يأتي مع أن قليلا كقوله تعالى: {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم} وأما جملة إنشائية كقوله لعبده الكافر إن أسلمت فأنت حر ولامرأته إن فعلت كذا فانت طالق فهذا انشاء للعتق والطلاق عند وجود الشرط على رأي أو انشاء له حال التعليق ويتأخر نفوذه إلى حين وجود الشرط على رأي آخر وعلى التقديرين فجواب الشرط جملة انشائية والمقصود أن جواب الشرط في الآية المذكورة جملة شرطية وهي قوله: {فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} وهذا الشرط يقتضى ارتباط الجملة الأولى بالثانية ارتباط العلة بالمعلول والسبب بالمسبب فيكون الشرط الذي هو ملزوم علة ومقتضيا للجزاء الذي هو لازم فإن كان بينهما تلازم من الطرفين كان وجود كل منهما بدون دخول الاخر ممتنعا كدخول الجنة بالاسلام وارتفاع الخوف والحزن والضلال والشقاء مع متابعة الهوى وهذه هي عامة شروط القرآن والسنة فإنها اسباب وعلل والحكم ينتفى بانتفاء علته وإن كان التلازم بينهما من احد الطرفين كان الشرط ملزوما خاصا والجزاء لازما عاما فمتى تحقق الشرط الملزوم الخاص تحقق الجزاء اللازم العام ولا يلزم العكس كما يقال: إن كان هذا إنسانا فهو حيوان وإن كان البيع صحيحا فالملك ثابت وهذا غالب ما يأتي في قياس الدلالة حيث يكون الشرط دليلا على الجزاء فيلزم من وجوده وجود الجزاء لان الجزاء لازمه ووجود الملزوم يستلزم وجود اللازم ولا يلزم من عدمه عدم الجزاء وإن وقع هذا الشرط بين علة ومعلول فإن كان الحكم معللا بعلل صح ذلك وجاز أن يكون الجزاء اعم من الشرط كقولك إن كان هذا مرتدا فهو حلال الدم فإن حل الدم اعم من حله بالردة إلا أن يقال: إن حكم العلة المعينة ينتفى بانتفائها وإن ثبت الحكم بعلة اخرى فهو حكم آخر واما حكم العلة المعينة فمحال أن ينفى مع زوالها وحينئذ فيعود التلازم من الطرفين ويلزم من وجود كل واحد من الشرط والجزاء وجود الاخر ومن عدمه عدمه وتمام تحقيق هذا في مسئلة تعليل الحكم الواحد بعلتين وللناس فيه نزاع مشهور وفصل الخطاب فيها أن الحكم الواحد أن كان واحدا بالنوع كحل الدم وثبوت الملك ونقض الطهارة جاز تعليله بالعلل المختلفة وإن كان واحدا بالعين كحل الدم بالردة وثبوت الملك بالبيع اوالميراث ونحو ذلك لم يجز تعليله بعلتين مختلفتين وبهذا التفصيل يزول الاشتباه في هذه المسألة والله اعلم ومن تأمل ادلة الطائفتين وجد كل ما احتج به من رأى تعليل الحكم بعلل مختلفة إنما يدل على تعليل الواحد بالنوع بها وكل من نفى تعليل الحكم بعلتين إنما يتم دليله على نفي تعليل الواحد بالعين بهما فالقولان عند التحقيق يرجعان إلى شيء واحد والمقصود أن الله سبحانه جعل اتباع هداه وعهده الذي عهده إلى آدم سببا ومقتضيا لعدم الخوف والحزن والضلال والشقاء وهذا الجزاء ثابت بثبوت الشرط منتف بانتفائه كما تقدم بيانه ونفى الخوف والحزن عن متبع الهدى نفي لجميع انواع الشرور فإن المكروه الذي ينزل بالعبد متى علم بحصوله فهو خائف منه أن يقع به وإذا وقع به فهو حزين على ما أصابه منه فهو دائما في خوف وحزن وكل خائف حزين فكل حزين خائف وكل من الخوف والحزن يكون على فعل المحبوب وحصول المكروه فالاقسام اربعة خوف من فوت المحبوب وحصول المكروه وهذا جماع الشر كله فنفى الله سبحانه ذلك عن متبع هداه الذي أنزله على السنة رسله وأتى في نفي الخوف بالاسم الدال على نفي الثبوت واللزوم فإن أهل الجنة لابد لهم من الخوف في الدنيا وفي البرزخ ويوم القيامة حيث يقول آدم وغيره من الانبياء نفسي نفسي فأخبر سبحانه أنهم وإن خافوا فلا خوف عليهم أي لا يلحقهم الخوف الذي خافوا منه وأتى في نفي الحزن بالفعل المضارع الدال على نفي التجدد والحدوث أي لا يلحقهم حزن ولا يحدث لهم إذا لم يذكروا ما سلف منهم بل هم في سرور دائم لا يعرض لهم حزن على ما فات وأما الخوف فلما كان تعلقه بالمستقبل دون الماضي نفي لحوقه لهم جملة أي الذي خافوا منه لا ينالهم ولا يلم بهم والله اعلم فالحزين إنما يحزن في المستقبل على ما مضى والخائف إنما يخاف في الحال مما يستقبل فلا خوف عليهم أي لا يلحقهم ما خافوا منه ولا يعرض لهم حزن على ما فات وقال في الآية الاخرى {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} فنفى عن متبع هداه امرين الضلال والشقاء قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ: {فأما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} والاية نفت مسمى الضلال والشقاء عن متبع الهدى مطلقا فاقتضت الآية أنه لا يضل في الدنيا ولا يشقى ولا يضل في الآخرة ولا يشقى فيها فإن المراتب اربعة هدى وشقاوة في الدنيا وهدى وشقاوة في الآخرة لكن ذكر ابن عباس رضي الله عنهما في كل دار اظهر مرتبتيها فذكر الضلال في الدنيا إذ هو اظهر لنا وأقرب من ذكر الضلال في الآخرة وأيضا فضلال الدنيا اضل ضلال في الآخرة وشقاء الآخرة مستلزم للضلال فيها فنبه بكل مرتبة على الأخرى فنبه بنفي ضلال الدنيا على نفي ضلال الآخرة فإن العبد يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه قال الله تعالى في الآية الأخرى {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} وقال في الآية الاخرى {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا} فأخبر أن من كان في هذه الدار ضالا فهو في الآخرة اضل واما نفي شقاء الدنيا فقد يقال أنه لما انتفى عنه الضلال فيها وحصل له الهدى والهدى فيه من برد اليقين وطمأنينة القلب وذاق طعم الإيمان فوجد حلاوته وفرحة القلب به وسروره والتنعيم به ومصير القلب حيا بالإيمان مستنيرا به قويا به قد نال به غذاؤه ورواءه وشفاءه وحياته ونوره وقوته ولذته ونعيمه ما هو من أجل انواع النعيم واطيب الطيبات واعظم اللذات قال الله تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} فهذا خبر أصدق الصادقين ومخبره عند اهله عين اليقين بل هو حق اليقين ولابد لكل من عمل صالحا أن يحييه الله حياة طيبة بحسب إيمانه وعمله ولكن يغلط الجفاة الاجلاف في مسمى الحياة حيث يظنونها التنعم في أنواع المآكل والمشارب والملابس والمناكح أو لذة الرياسة والمال وقهر الاعداء والتفنن بأنواع الشهوات ولا ريب أن هذه لذة مشتركة بين البهائم بل قد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الانسان فمن لم تكن عنده لذة إلا اللذة التي تشاركه فيها السباع والدواب والانعام فذلك ممن ينادي عليه من مكان بعيد ولكن اين هذه اللذة من اللذة بأمر إذا خالط بشاشته القلوب سلى عن الابناء والنساء والاوطان والاموال والاخوان والمساكن ورضى بتركها كلها والخروج منها رأسا وعرض نفسه لانواع المكاره والمشاق وهو متحل بهذا منشرح الصدر به يطيب له قتل ابنه وأبيه وصاحبته واخيه لا تأخذه في ذلك لومة لائم حتى أن أحدهم ليتلقى الرمح بصدره ويقول فزت ورب الكعبة ويستطيل الاخر حياته حتى يلقى قوته من يده ويقول إنها لحياة طويلة أن صبرت حتى أكلها ثم يتقدم إلى الموت فرحا مسرورا ويقول الاخر مع فقره لو علم الملوك وابناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا عليه بالسيوف ويقول الاخر أنه ليمر بالقلب اوقات يرقص فيها طربا وقال بعض العارفين أنه لتمر بي اوقات اقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا أنهم لفي عيش طيب ومن تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الوصال فقالوا إنك تواصل فقال: «إني لست كهيئتكم إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني» علم أن هذا طعام الارواح وشرابها وما يفيض عليها من أنواع البهجة واللذة والسرور والنعيم الذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه وغيره إذا تعلق بغباره رأى ملك الدنيا ونعيمها بالنسبة إليه هباء منثورا بل باطلا وغرورا وغلط من قال أنه كان يأكل ويشرب طعاما وشرابا يغتذى به بدنه لوجوه احدها أنه قال أظل عند ربي يطعمني ويسقيني ولو كان أكلا وشربا لم يكن وصالا ولا صوما الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم اخبرهم أنهم ليسوا كهيئته في الوصال فإنهم إذا واصلوا تضرروا بذلك واماهو صلى الله عليه وسلم فإنه إذا واصل لا يتضرر بالوصال فلو كان يأكل ويشرب لكان الجواب وأنا ايضا لا اواصل بل آكل وأشرب كما تأكلون وتشربون فلما قررهم على قولهم إنك تواصل ولم ينكره عليهم دل على أنه كان مواصلا وإنه لم يكن يأكل أكلا وشربا يفطر الصائم الثالث أنه لو كان أكلا وشربا يفطر الصائم لم يصح الجواب بالفارق بينهم وبينه فإنه حينئذ يكون صلى الله عليه وسلم هو وهم مشتركون في عدم الوصال فكيف يصح الجواب بقوله: «لست كهيئتكم» وهذا أمر يعلمه غالب الناس أن القلب متى حصل له ما يفرحه ويسره من نيل مطلوبه ووصال حبيبه أو ما يغمه ويسؤوه ويحزنه شغل عن الطعام والشراب حتى أن كثيرا من العشاق تمر به الأيام لا يأكل شيئا ولا تطلب نفسه أكلا وقد افصح القائل في هذا المعنى:
لها احاديث من ذكراك تشغلها ** عن الشراب وتلهيها عن الزاد

لها بوجهك نور تستضيء به ** ومن حديثك في أعقابها حادى

إذ اشتكت من كلال السير أوعدها ** روح القدوم فتحيا عند ميعاد

والمقصود أن الهدى مستلزم لسعادة الدنيا وطيب الحياة والنعيم العاجل وهو أمر يشهد به الحس والوجد واما سعادة الآخرة فغيب يعلم بالإيمان فذكرها ابن عباس رضي الله عنهما لكونها اهم وهي الغاية المطلوبة وضلال الدنيا اظهر وبالنجاة منه ينجو من كل شر وهو اضل ضلال الآخرة وشقائها فلذلك ذكره وحده والله اعلم.

.فصل: ذكر الضلال والشقاء:

وهذان الضلالان أعني الضلال والشقاء يذكرهما سبحانه كثيرا في كلامه ويخبر انهما حظ اعدائه ويذكر ضدهما وهما الهدى والفلاح كثيرا ويخبر انهما حظ اوليائه اما الاول فكقوله تعالى: {إن المجرمين في ضلال وسعر} فالضلال الضلال والسعر هو الشقاء والعذاب وقال تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين} وأما الثاني فكقوله تعالى في أول البقرة وقد ذكر المؤمنين وصفاتهم {اولئك على هدى من ربهم واولئك هم المفلحون} وكذلك في أول لقمان وقال في الأنعام {الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون} ولما كانت سورة ام القرآن اعظم سورة في القرآن وافرضها قراءة على الامة واجمعها لكل ما يحتاج إليه العبد واعمها نفعا ذكر فيها الأمر ين فأمرنا أن نقول: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم} فذكر الهداية والنعمة وهما الهدى والفلاح ثم قال: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فذكر المغضوب عليهم وهم أهل الشقاء والضالين وهم أهل الضلال وكل من الطائفتين له الضلال والشقاء لكن ذكر الوصفين معا لتكن الدلالة على كل منهما بصريح لفظه وأيضا فإنه ذكر ماهو اظهر الوصفين في كل طائفة فإن الغضب على اليهود أظهر لعنادهم الحق بعدمعرفته والضلال في النصارى اظهر لغلبة الجهل فيهم وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون.

.فصل: الخطاب في قوله تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى}:

وقوله تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى} هو خطاب لمن اهبطه من الجنة بقوله: {اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو} ثم قال: {فإما يأتينكم مني هدى} وكلا الخطابين لابوي الثقلين وهو دليل على أن الجن مامورون منهيون داخلون تحت شرائع الانبياء وهذا مما لا خلاف فيه بين الامة وإن نبينا بعث اليهم كما بعث إلى الانس كما لا خلاف بينها أن مسيئهم مستحق للعقاب وإنما اختلف علماء الاسلام في المسلم منهم هل يدخل الجنة فالجمهور على أن محسنهم في الجنة كما أن مسيئهم في النار وقيل بل ثوابهم سلامتهم من الجحيم واما الجنة فلا يدخلها احد من اولاد إبليس وإنماهي لبني آدم وصالحي ذريته خاصة وحكى هذا القول عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى واحتج الاولون بوجوه احدها هذه الآية فإنه سبحانه اخبر أن من اتبع هداه فلا يخاف ولا يحزن ولا يضل ولا يشقى وهذا مستلزم لكمال النعيم ولا يقال: إن الآية إنما تدل على نفي العذاب فقط ولا خلاف أن مؤمنيهم لا يعاقبون لانا نقول لولم تدل الآية إلا على أمر عدمي فقط لم يكن مدحا لمؤمني الانس ولما كان فيها إلا مجرد امرعدمي وهو عدم الخوف والحزن ومعلوم أن سياق الآية ومقصودها إنما اريد به أن من اتبع هدى الله الذي انزله حصل له غاية النعيم واندفععنه غاية الشقاء وعبر عن هذا المعنى المطلوب بنفي الامور المذكورة لاقتضاء الحال لذلك فإنه لما اهبط آدم من الجنة حصل له من الخوف والحزن والشقاء ما حصل فاخبره سبحانه أنه معطيه وذريته عهدا من اتبعه منهم انتفى عنه الخوف والحزن والضلال والشقاء ومعلوم أنه لا ينتفى ذلك كله إلا بدخول دار النعيم ولكن المقام بذكر التصريح بنفي غاية المكروهات أولى الثاني قوله تعالى: {وإذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا انصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا انزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا اجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب اليم} فأخبرنا سبحانه عن نذيرهم اخبارا بقوله أن من اجاب داعيه غفر له وأجاره من العذاب ولو كانت المغفرة لهم إنما ينالون بها مجرد النجاة من العذاب كان ذلك حاصلا بقوله ويجركم من عذاب اليم بل تمام المغفرة دخول الجنة والنجاة من النار فكل من غفر الله له فلابد من دخوله الجنة الثالث قوله تعالى في الحور العين {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} فهذا يدل على أن مؤمني الجن والانس يدخلون الجنة وأنه لم يسبق من احد منهم طمث لاحد من الحور فدل على أن مؤمنيهم يتأنى منهم طمث الحور العين بعد الدخول كما يتأتى من الانس ولو كانوا ممن لا يدخل الجنة لما حسن الاخبار عنهم بذلك الرابع قوله تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدّت للكافرين وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون} والجن منهم مؤمن ومنهم كافر كما قال صالحوهم {وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون} فكما دخل كافرهم في الآية الثانية وجب أن يدخل مؤمنهم في الأولى الخامس قوله عن صالحيهم {فمن اسلم فأولئك تحروا رشدا} والرشد هو الهدى والفلاح وهو الذي يهدى إليه القرآن ومن لم يدخل الجنة لم ينل غاية الرشد بل لم يحصل له من الرشد إلا مجرد العلم.
السادس قوله تعالى: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدّت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} ومؤمنهم ممن آمن بالله ورسله فيدخل في المبشرين ويستحق البشارة السابع قوله تعالى: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} عم سبحانه بالدعوة وخص بالهداية المفضية اليها فمن هداه اليها فهو من دعاه اليها فمن اهتدى من الجن فهو من المدعوين اليها الثامن قوله تعالى: {ويوم نحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال اولياؤهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا اجلنا الذي اجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله أن ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون يا معشر الجن والانس ألم ياتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على انفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم واهلها غافلون ولكل درجات مما عملوا} وهذا عام في الجن والانس فاخبرهم تعالى أن لكلهم درجات من عمله فاقتضى أن يكون لمحسنهم درجات من عمله كما لمحسن الانس التاسع قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} وقوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون اولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون} ووجه التمسك بالاية من جوه ثلاثة احدها عموم الاسم الموصول فيها الثاني ترتيبه الجزاء المذكورعلى المسألة ليدل على أنه مستحق بها وهو قول ربنا الله مع الاستقامة والحكم يعم بعموم علته فإذا كان دخول الجنة مرتبا على الاقرار بالله وربوبيته مع الاستقامة على امره فمن اتى ذلك استحق الجزاء الثالث أنه قال فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون اولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوايعملون فدل على أن كل من لا خوف عليه ولا حزن فهو من أهل الجنة وقد تقدم في أول الايات قوله تعالى: {فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} وانه متناول للفريقين ودلت هذه الآية على أن من لا خوف عليه ولا حزن فهو من أهل الجنة العاشر أنه إذا دخل مسيئهم النار بعدل الله فدخول محسنهم الجنة بفضله ورحمته أولى فإن رحمته سبقت غضبه والفضل اغلب من العدل ولهذا لا يدخل النار إلا من عمل اعمال أهل النار واما الجنة فيدخلها من لم يعمل خيرا قط بل ينشيء لها أقواما يسكنهم إياها من غير عمل عملوه ويرفع فيها درجات العبد من غير سعي منه بل بما يصل إليه من دعاء المؤمنين وصلاتهم وصدقتهم وأعمال البر التي يهدونها إليه بخلاف أهل النار فإنه لا يعذب فيها بغير عمل اصلا وقد ثبت بنص القرآن واجماع الامة أن مسيء الجن في النار بعدل الله وبما كانوا يكسبون فمحسنهم في الجنة بفضل الله بما كانوا يعملون لكن قيل أنهم يكونون في ربض الجنة يراهم أهل الجنة ولا يرونهم كما كانوا في الدنيا يرون بني آدم من حيث لا يرونهم ومثل هذا لايعلم إلا بتوقيف تنقطع الحجة عنده فإن ثبتت حجة يجب اتباعها وإلا فهو مما يحكى ليعلم وصحته موقوفة على الدليل. والله أعلم. اهـ.